كاريزما أون لاين
اهلا وسهلا بك فى منتدى كاريزما اون لاين سجل وشارك معنا برؤيتك
كاريزما أون لاين
اهلا وسهلا بك فى منتدى كاريزما اون لاين سجل وشارك معنا برؤيتك
كاريزما أون لاين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كاريزما أون لاين

أجمل الاغانى والافلام والمسلسلات العربية والبرامج
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  
Logo Design by FlamingText.com

 

 رواية عائد الى حيفا للروائي الفلسطيني غسان كنفاني

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
زهرة
Admin
زهرة


عدد المساهمات : 1110
تاريخ التسجيل : 26/02/2013

رواية عائد الى حيفا للروائي الفلسطيني غسان كنفاني Empty
مُساهمةموضوع: رواية عائد الى حيفا للروائي الفلسطيني غسان كنفاني   رواية عائد الى حيفا للروائي الفلسطيني غسان كنفاني Icon_minitimeالسبت مارس 30, 2013 3:28 pm

عائد الى حيفا
حين وصل سعيد.س إلى مشارف حيفا قادماً اليها بسيارته عن طريق القدس احس ان شيئاً ما ربط لسانه، فالتزم الصمت وشعر بالأسى يتسلقه من الداخل. وللحظة واحدة راوته فكرة ان يرجع، ودون ان ينظر اليها كان يعرف انها اخذه بالبكاء الصامت، وفجأة جاء صوت البحر، تماماً كما كان. كلا لم تعد اليه الذاكرة شيئاً فشيئاً. بل انهالت في داخل رأسه، كما يتساقط جدار من حجارة ويتراكم بعضه فوق بعض. لقد جاءت الأمور والأحداث فجأة، واخذت تتساقط فوق بعضها وتملأ جسده وقال لنفسه ان (صفية) زوجته تحس الشيء ذاته وانها لذلك تبكي.
منذ ان غادر رام الله في الصباح لم يكف عن الكلام، ولا هي كفت، كانت الحقول تتسرب تحت نظره عبر زجاج سيارته، وكان الحر لا يطاق فقد أحس بجبهته تلتهب، تماما كما كان الأسفلت يشتعل تحت عجلات سيارته، وفوقه كانت الشمس شمس حزيران الرهيب تصب قار غضبها على الأرض.
طوال الطريق كان يتكلم ويتكلم ويتكلم، تحدث إلى زوجته عن كل شيء عن الحرب وعن الهزيمة وعن بوابة مندلبوم التي هدمتها الجرارات وعن العدو الذي وصل إلى النهر والقناة ومشارف دمشق خلال ساعات وعن وقف اطلاق النار والراديو ونهب الجنود للاشياء والاثاث، ومنع التجوال وابن العم الذي في الكويت يأكله القلق، والجار الذي لمّ اغراضه وهرب، والجنود العرب الثلاثة الذين قاتلوا وحدهم يومين على تلة تقع قرب مستشفى اوغستا فكتوريا والرجال الذي خلعوا بزاتهم وقاتلوا في شوارع القدس والفلاح الذي اعدموه لحظة رأوه قرب أكبر فنادق رام الله وتحدثت زوجته عن أمور كثيرة أخرى، طوال الطريق لم يكفا عن الحديث والان حين وصلا إلى مدخل حيفا صمتا معاً واكتشفا في تلك اللحظة انهما لم يتحدثا حرفاً واحداً عن الأمر الذي جاءا من أجله.
هذه هي حيفا إذن بعد عشرين سنة.
ظهر يوم الثلاثين من حزيران 1967 كانت سيارة الفيات الرمادية التي تحمل رقماً اردنياً ابيض تشق طريقها نحو الشمال عبرا لمرج الذي كان اسمه مرج بن عامر قبل عشرين سنة وتتسلق الطريق الساحلي نحو مدخل حيفا الجنوبي وحين عبر الشارع ودخل الى الطريق الرئيسي انهار الجدار كله وضاعت الطريق وراء ستار من الدموع ووجد نفسه يقول لزوجته صفية: (هذه هي حيفا يا صفية)
وأحس المقود ثقيلاً بين قبضتيه اللتين اخذتا تنضحان العرق اكثر من ذي قبل وخطر له ان يقول لزوجته (انني اعرفها حيفا هذه ولكنها تنكرني) ولكنه غير رأيه فقبل قليل فقط كانت فكرة قد قطرت له وقالها لزوجته: (اتعرفين طوال عشرين سنة كنت اتصور ان بوابة مندلبوم ستفتح ذات يوم ولكن ابدا ابدا لم اتصور انها ستفتح من الناحية الاخرى لم يكن ذلك يخطر لي على بال. ولذلك فحين فتحوها هم بدا لي الأمر مرعبا وسخيفا والى حد كبير مهيمنا تماماً، قد اكون مجنوناً لو قلت لك ان كل الأبواب يجب أن تفتح الا من جهة واحدة وانها اذا فتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها مغلقة لا تزال ولكن تلك هي الحقيقة)
والتفت إلى زجته الا انها لم تكن تسمع كانت منصرفة الى التحديق نحو الطريق تارة الى اليمين حيث كانت المزارع تمتد على مدى البصر وتارة الى اليسار حيث كان البحر الذي ظل بعيدا اكثر من عشرين سنة يهدر على القرب وقالت فجأة: (لم أكن اتصور ابداً انني سأراها مرة أخرى)
وقال: (أنت لا ترينها انهم يرونها لك)
وعندها فقط فقدت اعصابها كان ذلك يحدث للمرة الأولى وصاحت فجأة: (ما هذه الفلسفة التي لم تكف عنها طول النهار؟ الأبواب الرؤيا وأمور أخرى ماذا حدث لك؟)
- (ماذا حدث لي؟)
قالها لنفسه وهو يرتجف ولكنه تحكم باعصابه وعاد يقول لها بهدوء:
- (لقد فتحوا الحدود فور ان انهوا الاحتلال فجأة وفوراً لم يحدث ذلك في أي حرب في التاريخ اتعرفين الشيء الفاجع الذي حدث في نيسان 1948 والان بعد لماذا؟ لسواد عينيك وعيني؟ لا ذلك جزء من الحرب انهم يقولون لنا تفضلوا انظروا كيف اننا احسن منكم وأكثر رقيا عليكم ان تقبلوا ان تكونوا خدماً لنا، معجبين بنا ولكن رأيت بنفسك لم يتغير شيء كان بوسعنا أن نعجلهم أحسن بكثير)
- (اذن لماذا أتيت؟)
- ونظر اليها بحنق فصمتت.
كانت تعرف، فلماذا تسأل؟ وهي التي قالت له ان يذهب فطوال عشرين سنة تجنبت الحديث عن ذلك عشرين سنة ثم ينبثق الماضي كما يندفع البركان...
وحين كان يقود سيارته وسط شوارع حيفا كانت رائحة الحرب ما تزال هناك بصورة ما، غامضة ومثيرة ومستفزة، وبدت له الوجوه قاسية ووحشية وبعد قليل اكتشف انه يسوق سيارته في حيفا دون أن يشعر بأن شيئاً في الشوارع قد تغير كان يعرفها حجراً حجراً ومفرقاً وراء مفرق، فلطالما شق تلك الطريق بسيارته الفورد الخضراء موديل 1946 انه يعرفها جيداً والآن يشعر بأنه لم يتغيب عنها عشرين سنة، وهو يقود سيارته كما كان يفعل كما لو أنه لم يكن غائباً طوال تلك السنوات المريرة.
وأخذت الأسماء تنهال في رأسه كما لو انها تنفض عنها طبقة كثيفة من الغبار وادي النسناس، شارع الملك فيصل، ساحة الحناطير، الحليصة، الهادار، واختلطت عليه الأمور فجأة ولكنه تماسك وسأل زوجته بصوت خافت: (حسناً من أين نبدأ؟)
ولكنها ظلت صامتة، وسمع صوتها الخافت يبكي بما يشبه الصمت وقدر لنفسه العذاب الذي تعانيه، وعرف أنه لا يستطيع معرفة العذاب على وجه الدقة، ولكنه يعرف أنه عذاب كبير ظل هناك عشرين سنة، وانه الآن ينتصب عملاقاً لا يصدق في احشائها ورأسها، وقلبها، وذاكرتها، وتصوراتها ويهيمن على كل مستقبلها واستغرب كيف انه لم يفكر أبداً بما يمكن ان يعنيه ذلك العذاب، وبمدى ما هو غارق في تجاعيد وجهها وعينيها وعقلها، وكم كان معها في كل لقمة اكلتها، وفي كل كوخ عاشت فيه، وفي كل نظرة رمتها على أولادها وعلى نفسه، والآن ينبثق ذلك كله من بين الحطام والنسيان والأسى ويأتي على ركام الهزيمة المريرة التي ذاقها مرتين على الأقل في حياته.
وفجأة جاء الماضي حاداً مثل سكين كان ينعطف بسيارته عند نهاية شارع الملك فيصل (فالشوارع بالنسبة له لم تغير اسماءها بعد، متجهاً نحو التقاطع الذي ينزل يساراً إلى الميناء ويتجه يميناً نحو الطريق المؤدي إلى وادي النسناس حين لمح مجموعة من الجنود المسلحين يقفون على المفترق امام حاجز حديدي وحين كان يرمقهم بطرف عينيه صدر صوت انفجار ما من بعيد، اعقبته طلقات رصاص وفجأة أخذ المقود يرتجف بين يديه، وكاد ان يرطم الرصيف وتماسك في اللحظة الأخيرة وشهد صبياً يعدو عبر الطريق وعندها جاء الماضي الراعب بكل ضجيجه، ولأول مرة منذ عشرين سنة تذكر ما حدث بالتفاصيل وكانه يعيشه مرة أخرى.
صباح الأربعاء، 21 نيسان عام 1948.
كانت حيفا مدينة لا تتوقع شيئاً رغم انها كانت محكومة بتوتر غامض.
وفجأة جاء القصف من الشرق من تلال الكرمل العالية ومضت قذائف المورتر تطير عبر وسط المدينة لتصب في الاحياء العربية.
وانقلبت شوارع حيفا الى فوضى واكتسح الرعب المدينة التي اغلقت حوانيتها ونوافذ بيوتها....
كان سعيد في قلب المدينة حين بدأت أصوات الرصاص والمتفجرات تملأ سماء حيفا، كان قد ظل حتى الظهر غير متوقع ان يكون ذلك هو الهجوم الشامل وعندها فقط حاول للوهلة الأولى أن يعود الى البيت بسيارته، الا انه ما لبث أن اكتشف استحالة ذلك، فمضى عبر شوارع فرعية محاولاً اجتياز الطريق الى الحليصة حيث يقع منزله، الا أن القتال كان قد استع، وصار يرى الرجال المسلحين يندفعون من الشوارع الفرعية الى الرئيسية وبالعكس، وكانت تحركاتهم تسير وفق توجيهات بمكبرات الصوت تنبثق هنا وهناك وبعد لحظات شعر سعيد انه يندفع دونما اتجاه، وان الأزقة المغلقة بالمتاريس أو بالرصاص أو بالجنود انما تدفعه دون ان يحس، نحو اتجاه وحيد، وفي كل مرة كان يحاول العودة الى وجهته الرئيسية، منتقياً أحد الازقة، كان يجد نفسه كأنما بقوة غير مرثية يرتد إلى طريق واحد ذلك هو المتجه نحو الساحل.
كان قد تزوج قبل عام واربعة أشهر من صفية واستأجر بيته الصغير في تلك المنطقة التي حسب انها ستكون اوفر أمناً، وفجأة يشعر الآن بأنه لا يستطيع الوصول اليه، كان يعرف أن زوجته الصغيرة لا تستطيع أن تتدبر أمرها، فمنذ جاء بها من الريف لم تعتد ان تقبل العيش في المدينة الكبيرة، أو أن تكيف نفسها مع ذل التعقيد الذي كان يبدو رعباً لها، وغير قابل للحل ترى ما الذي يمكن ان يحدث لها الآن؟ كان ضائعاً تقريباً، ولم يكن يعرف على وجه التعيين اين يحدث القتال وكيف، وفي كل حدود علمه أن الانكليز كانوا ما زالوا يسيطرون على المدينة وأن الأحداث في شكلها النهائي كان مقدراً لها أن تقع بعد ثلاثة أسابيع تقريباً حين يشرع البريطانيون في الانسحاب حسب الموعد الذي حدوده.
ولكنه فيما كان يسارع الخطو كان يعرف تماماً أن عليه أن يتجنب المناطق المرتفعة المتصلة بشارع هرتزل، حيث كان اليهود يتمركزون منذ البدء، ومن ناحية أخرى كان عليه أن يبتعد عن المركز التجاري الذي يقع بين حارة الحليصا وبين شارع اللنبي فقد كان ذلك المركز نقطة القوة في السلاح اليهودي.
وهكذا اندفع محاولاً الدوران حول المركز التجاري كي يصل الى الحليصا، وكانت أمامه طريق تنتهي بوادي النسناس وتمر عبر المدينة القديمة.
وفجأة اختلطت عليه الأمور وتشابكت الأسماء الحليصا، وداي وشيما، البرج، المدينة القديمة، وادي النسناس، شعر أنه ضائع تماماً وأنه قد فقد وجهة سيره كان القصف قد اشتد ورغم انه كان بعيداً بعض الشيء عن مراكز اطلاق النار الا انه استطاع ان يميز الجنود البريطانيين يسدون بعض المنافذ ويفتحون منافذ اخرى.
ويبدو أنه بصورة ما وجد نفسه في المدينة القديمة، ومنها اندفع كأنما بقوة لا يعرفها، نحو جنوب شارع ستانتون، وكان يعرف الآن أنه يبعد أقل من مئتي متر عن شارع الحلول وبدأ يشم رائحة البحر.
وعندها فقط تذكر (خلدون) الصغير، ابنه الذي اتم في ذلك اليوم بالذات شهره الخامس، وانتابته فجأة قلق غامض ذلك هو الشيء الوحيد الذي مازال يحس طعمه تحت لسانه، حتى في هذه اللحظات التي تبعد عشرين سنة عن المرة الأولى التي حدث فيها ذلك.
هل كان يتوقع تلك الفجيعة؟ الأمور هنا تختلط الماضي يتداخل مع الحاضر، وهما يتداخلان مع أفكار واوهام وتخيلات ومشاعر عشرين سنة لاحقة هل كان يعرف؟ هل أحس ذلك الشيء الفاجع قبل أن يحدث احياناً يقول لنفسه: "بلى عرفت ذلك قبل ان يحدث) واحيانا اخرى يقزل لنفسه: (لا انا اصور ذلك بعد ان اتوقع شيءا مروعا من ذلك النوع).
كانا لمساء قد بدأ يخيم على المدينة ليس يدري كم من الساعات امضى وهو يركض في شوارعها مرتداً عن شارع الى شارع، اما الآن فقد بات واضحاً يدفعونه نحو الميناء، فقد كانت الازقة المتفرعة عن الشارع الرئيسي مغلقة تماماً وكان اذ يحاول الاندفاع في احدها ليتدبر امر عودته الى بيته، يزجرونه بعنف، احياناً بفوهات البنادق واحياناً بحرابها.
كانت السماء نادراً تتدفق باصوات رصاص وقنابل وقصف بعيد وقريب وكأنما هذه الأصوات نفسها كانت تدفعهم نحو الميناء ورغم أنه كان غير قادر على التركيز على ايما أمر معين، الا انه رأى كيف بدأ الزحام يتكاثف مع كل خطوة، كان الناس يتدفقون من الشوارع الفرعية نحو ذلك الشارع الرئيسي المتجه الى الميناء، رجالاً ونساء واطفال، يحملون اشياء صغيرة او لا يحملون، يبكون او يسبحون داخل ذلك الذهول الصارخ بصمت كسيح، وضاع بن امواج البشر المتدفقة وفقد القدرة على التحكم بخطواته انه ما يزال يذكر كيف انه كان يتجه نحوا لبحر وكانه محمول وسط الزحام الباكي، المذهول غير قادر على التفكير في أي شيء وفي رأسه كان ثمة صورة واحدة معلقة كانما على جدار زوجته صفيه وابنه خلدون.
لقد مضت اللحظات بطيئة وقاسية وتبدو الآن مجرد كابوس ثقيل لا يصدق اجتاز البوابة الحديدية للميناء حيث كان جنود بريطانيون يزجرون الناس ومن هناك رأى اكوام البشر تتساقط فوق الزورق الصغير المنتظر في الماء قرب الرصيف دون ان يعرف ماذا يجب عليه ان يفعل قرر الا يصل الى الزورق وفجأة –كمن اصيب بالجنون، او كمن عاد اليه عقله دفعة واحدة بعد جنون طويل- استدار وسط الزحام واخذ يدافعه محاولا بكل ما فيه من قوة مستنزفة ان يشق طريقه وسطه عكسه نحو البوابة الحديدية.
مثل من يسبح ضد سيل هادر ينحدر من جبل شديد العلو اخذ سعيد يشق طريقه بكتفيه وذراعيه وساقيه ورأسه يجره التيار خطوات الى الوراء فيعود ويتقدم مندفعاً بشيء من الوحشية مثل حيوان طريد يشق طريقاً مستحيلاً في دغل كثيف متشابك، وفوقه كان الدخان والعويل ودوي القنابل وزخات الرصاص تمتزج اصواتها بالصراخ وهدير البحر وزحف الخطوات الضائعة وضرب المجاذيف سطح الموج...
هل حقاً مضى على ذلك عشرون سنة؟
كان العرق يتصبب بارداً على جبين سعيد وهو يقود سيارته صاعداً المنحدر لقد حسب ان تلك الذاكرة لن تعود بهذا الصخب المجنون الذي لم يكن لها الا لحظات حدوثها ومن طرفي عينيه نظر الى زوجته كان وجهها مشدوداً أميل الى الاصفرار وكانت عيناها تتدفقان بالدموع لا ريب انها –قال لنفسه- تستعيد خطواتها ذلك اليوم ذاته، حين كان هو اقرب ما يكون الى البحر وكانت هي أقرب ما تكون الى الجبل، وبينهما يمد الرعب والضياع خيوطها غير المرئية فوق مستنقع من الصراخ والخوف والمجهول.
كانت –كما قالت له أكثر من مرة في السنوات الماضية- تفكر به وحين دوى الرصاص انطلق الناس يقولون ان الانكليز واليهود اخذوا يكتسحون حيفا راودها خوف يائس.
كانت تفكر به عندما جاءت اصوات الحرب من وسط المدينة حيث تعرف انه هناك، وكانت تشعر انها اكثر امناً فالتزمت البيت فترة، وحين طال غيابه هرعت الى الطريق دون ان تدري على وجه التحديد ما الذي كانت تريده.
في البدء كانت تطل من الشباك، ومن الشرفة، وكأنها شعرت الآن ان الأمر قد تغير تماماً، اذ بدأت النار تنهمر بغزارة بدءاً من الظهر من التلال الواقعة فوق الحليصا وأحست أنها محاصرة كلياً، وعندها فقط أخذت تعدو نازلة الدرج، واندفعت على طول الطريق نحو الشارع الرئيسي، وكان استعجالها لرؤيته قادماً يختصر خوفها عليه، وقلقها من المصير المجهول الذي كان يحمل الف احتمال مع كل رصاصة تطلق، وحين وصلت إلى أول الطريق اخذت ترقب السيارات المندفعة بسرعة، وقادتها خطواتها من سيارة الى اخرى، ومن رجل إلى آخر تسأل دون أن تحصل على اجابة وفجأة رأت نفسها في موج الناس يدفعونها وهم يندفعون من شتى ارجاء المدينة في سيلهم العرم الجبار الذي لا يمكن رده، كأنها محمولة على نهر متدفق مثل عود من القش.
كم مضى من الوقت قبل أن تتذكر أن خلدون الصغير ما زال في سريره في الحليصا؟
ليست تتذكر تماماً، ولكنها تعرف أن قوة لا تصدق سمرتها في الأرض، فيما أخذ السيل الذي لا ينتهي من الناس يمر حولها ويتدافع على جانبي كتفيها وكأنها شجرة انبثقت فجأة في مجرى سيل هائل من الماء وارتدت هي الأخرى تدافع ذلك السيل بكل قوتها، وأمام عجزها وتعبها اخذت تصرخ بكل ما في حنجرتها من قوة، ولم تكن كلماتها الطائرة فوق ذلك الزحام الذي لا ينتهي لتصل إلى أي اذن لقد رددت كلمة (خلدون) الف مرة مليون مرة، وظلت شهوراً بعد ذلك تحمل في فمها صوتاً مبحوحاً مجروحاً لا يكاد يسمع وظلت كلمة خلدون نقطة واحدة لا غير تعوم ضائعة وسط ذلك التدافق اللانهائي من الأصوات والأسماء.
وكانت على وشك السقوط وسط الأقدام حين سمعت كمن يحلم صوتاً ينبثق من الأرض، ويناديها باسمها وحين رأت وجهه وراءها يتفصد بالعرق والغضب والارهاق أحست هول الفاجعة أكثر من أي وقت مضى واكتسحها حزن يشبه الطعنة التي ملأتها بطاقة من العزم لا حدود لها وقررت ان تعود بأي ثمن ولربما احست بأنها لن تستطيع الى الابد النظر إلى عيني سعيد او تركه يلمسها، وفي اعماقها شعرت أنها على وشك ان تفقد الاثنين معاً: سعيد وخلدون، فمضت تشق طريقها بكل ما في ذراعيها من قوة وسط الغاب الذي كان يسد في وجهها طريق العودة، محاولة في الوقت نفسه ان تضيع سعيد، الذي أخذ دون ان يعي ينادي صفية تارة وينادي خلدون تارة أخرى.
هل مضت اجيال وازمنة قبل ان تحس بكفيه القويتين المتيبستين تشدان على ذراعها؟
وفجأة نظرت في عينيه وأحست بشيء يشبه الشلل يسقطها على كتفه كخرقة بالية لا قيمة لها وحولهما مضت سيول البشر تتقاذفهما من جهة إلى أخرى وتدفعهما أمامها نحو الشاطئ ولكنهما لم يكونا بعد قادرين على الأحساس بأي شيء وفقط حين عومهما الرذاذ المتطاير من تحت خشب المجاذيف ونظرا إلى الشاطئ حيث كانت حيفا تغيم وراء غبش المساء وغبش الدموع...............


رواية عائد الى حيفا للروائي الفلسطيني غسان كنفاني 425image
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رواية عائد الى حيفا للروائي الفلسطيني غسان كنفاني
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
كاريزما أون لاين :: الشعر والادب :: - شعر الفصحى-
انتقل الى: